كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولقوله: {وبست الجبال بسًا فكانت هباء منبثًا} الواقعة
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بضم التاء الفوقية وفتح الياء التحتية بعد السين على فعل ما لم يسم فاعله ورفع الجبال بإسناد تسير إليها كما في قوله تعالى: {وإذا الجبال سيرت} التكوير
والباقون بالنون المضمومة وكسر الياء التحتية بعد السين بإسناد فعل التسيير إليه تعالى نفسه ونصب الجبال لكونه مفعول نسير والمعنى نحن نفعل بها ذلك اعتبارًا بقوله تعالى: {وحشرناهم} والمعنى واحد لأنها إذا سيرت فمسيرها ليس إلا اللّه تعالى. النوع الثاني قوله تعالى: {وترى الأرض} بكمالها {بارزة} لا غار فيها ولا صدع ولا جبل ولا نبت ولا شجر ولا ظل فبقيت بارزة ظاهرة ليس عليها ما يسترها وهو المراد من قوله تعالى: {لا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا} [طه] وقيل: إنها أبرزت ما في بطنها وقذفت الموتى المقبورين فيها فإذا هي بارزة الجوف والبطن فحذف ذكر الجوف كما قال تعالى: {وألقت ما فيها وتخلت} [الانشقاق] وقال تعالى: {وأخرجت الأرض أثقالها} [الزلزلة].
النوع الثالث قوله تعالى: {وحشرناهم} أي: الخلائق قهرًا إلى الوقت الذي تنكشف فيه المخبآت وتظهر القبائح والمغيبات ويقع الحساب فيه على النقير والقطمير والناقد فيه بصير {فلم نغادر} أن نترك {منهم} أي: الأوّلين والآخرين {أحدًا} لأنه لا ذهول ولا عجز، ونظيره قوله تعالى: {قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم} الواقعة
فإن قيل: لم جيء فحشرناهم ماضيًا بعد نسير وترى؟
أجيب: بأن ذلك يقال للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير وقبل البروز ليعاينوا تلك الأهوال العظائم، كأنه قيل وحشرناهم قبل ذلك. ولما ذكر تعالى حشرهم وكان من المعلوم أنه للعرض ذكر كيفية ذلك العرض فقال بانيًا الفعل للمفعول على طريقة كلام القادرين ولأن المخوف العرض لا لكونه من معين {وعرضوا على ربك} المحسن إليك برفع أوليائك وخفض أعدائك، وقوله تعالى: {صفًا} حال أي: مصطفين واختلف في تفسيره على وجوه؛ الأوّل: أن تعرض الخلق كلهم صفًا واحدًا لاتساع الأرض ظاهرين لا يحجب بعضهم بعضًا، ثانيها: لا يبعد أن يكونوا صفًا يقف بعضهم وراء بعض مثل الصفوف المحيطة بالكعبة التي تكون بعضها خلف بعض وعلى هذا فالمراد بقوله تعالى: {صفًا} صفوفًا كقوله تعالى: {يخرجكم طفلًا} غافر
أي: أطفالًا، ثالثها: المراد بالصف القيام كما في قوله تعالى: {فاذكروا اسم اللّه عليها صواف} الحج
أي: قيامًا وقيل: كل أمّة صف ويقال لهم: {لقد جئتمونا كما خلقناكم أوّل مرّة} أي: فرادى حفاةً عراةً غرلًا وليس المراد حصول المساواة من كل وجه لأنهم خلقوا صغارًا ولا عقل لهم ولا تكليف عليهم بل المراد ما مرّ ويقال لمنكري البعث: {بل زعمتم أن} أي: أنا {لن نجعل لكم موعدًا} أي: مكانًا ووقتًا نجمعكم فيه هذا الجمع فننجز لكم ما وعدناكم به على ألسنة رسلنا فكنتم مع التعزز على المؤمنين بالأموال والأنصار منكرين البعث والقيامة فالآن قد تركتم الأموال والأنصار في الدنيا وشاهدتم أن القيامة والبعث حق.
وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: قام فينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: «أيها الناس إنكم تحشرون إلى اللّه حفاة عراة غرلًا كما بدأنا أوّل خلق نعيده وعدًا علينا إنا كنا فاعلين ألا وإن أوّل خلق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام ألا وإنه سيجاء برجال من أمّتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: يا رب أصحابي فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: وكنت عليهم شهيدًا ما دمت فيهم إلى قوله العزيز الحكيم، قال: فيقال لي إنهم لم يزالوا مدبرين على أعقابهم منذ فارقتهم» وفي رواية فأقول: «سحقًا سحقًا» وقوله: غرلًا أي: قلفا الغرلة القلفة التي تنقطع من جلد الذكر وهو موضع الختان وقوله: «سحقًا» أي: بعدًا. قال بعض العلماء: المراد بهؤلاء الذين ارتدوا من العرب بعده، وعن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: «يحشر الناس حفاة عراة غرلًا، فقلت: الرجال والنساء جميعًا ينظر بعضهم إلى بعض، فقال: الأمر أشدّ من أن يهمهم ذلك» زاد النسائي في رواية لكم امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه.
وعن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه قال: قال رسول اللّه: «يحشر الناس على ثلاث طوائف راغبين راهبين واثنان على بعير وثلاثة على بعير وأربعة على بعير وعشرة على بعير وتحشر بقيتهم النار تقيل معهم حيث قالوا وتبيت معهم حيث باتوا وتصبح معهم حيث أصبحوا وتمسي معهم حيث أمسوا».
{ووضع} بعد العرض المستعقب للجمع بأدنى إشارة {الكتاب} المضبوط فيه دقائق الأعمال وجلائلها على وجه بيّن لا يخفي على قارئ ولا غيره شيء منه، فيوضع كتاب كل إنسان في يده، إما في اليمن وإما في الشمال والمراد الجنس وهو صحف الأعمال {فترى المجرمين مشفقين} أي: خائفين خوف العقاب من الحق وخوف الفضيحة من الخلق {مما فيه} من قبائح أعمالهم وسيء أفعالهم وأقوالهم {ويقولون} عند معاينتهم ما فيه من السيآت وقولهم {يا} للتنبيه {ويلتنا} أي: هلكتنا وهو مصدر لا فعل له من لفظه كناية عن أنه لا نديم لهم إذ ذاك إلا الهلاك {مال هذا الكتاب} أي: أيّ شيء له حال كونه على غير حال الكتب في الدنيا {لا يغادر} أي: لا يترك {صغيرة ولا كبيرة} من ذنوبنا وقال ابن عباس الصغيرة التبسم والكبيرة القهقهة، وقال سعيد بن جبير الصغيرة اللمم والمسيس والقبلة والكبيرة الزنا {إلا أحصاها} أي: عدّها وأثبتها في هذا الكتاب، ونظيره قوله تعالى: {وإنّ عليكم لحافظين كرامًا كاتبين يعلمون ما تفعلون} [الانفطار].
وقوله تعالى: {إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} [الجاثية].
تنبيه:
إدخال التاء في الصغيرة والكبيرة على تقدير أنّ المراد الفعلة الصغيرة والكبيرة، قال بعض العلماء: احتجبوا من الصغائر قبل الكبائر لأن الصغائر هي التي جرتهم إلى الكبائر واحترزوا من الصغائر حذرًا من أن تقعوا في الكبائر، وعن سهل بن سعد قال قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «إياكم ومحقرات الذنوب فإنما مثل محقرات الذنوب مثل قوم نزلوا بطن وادٍ فجاء هذا بعود فطبخوا خبزهم وإن محقرات الذنوب لموبقات» {ووجدوا ما عملوا حاضرًا} أي: مثبتًا في كتابهم {ولا يظلم ربك} أي: الذي رباك بخلق القرآن {أحدًا} منهم ولا من غيرهم في كتاب ولا عقاب ولا ثواب بل يجازي الأعداء بما يستحقونه تعذيبًا لهم ويجازي أولياءه الذين عادوهم بما يستحقون تنعيمًا لهم، روى الإمام أحمد في المسند عن جابر بن عبد اللّه أنه سافر إلى عبد اللّه بن أنيس مسيرة شهر يستأذن فاستأذن عليه قال: فخرج يطأ ثوبه فاعتنقني واعتنقته قلت حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في القصاص فخشيت أن تموت قبل أن أسمعه فقال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: «يحشر اللّه عز وجل الناس أو قال العباد حفاة عراة بهما قلت: وما بهما قال: ليس معهم شيء ثم ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عليه حق حتى أقتص منه حتى اللطمة، قال: فقلنا كيف وإنا نأتي حفاة عراة بهما قال: بالحسنات والسيئات» وروى الرازي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يحاسب اللّه الناس في القيامة على ملة يوسف وأيوب وسليمان فيدعوا المملوك فيقال: ما شغلك عني فيقول: جعلتني عبدًا لآدمي فلم يفرغني فيدعو يوسف فيقول: كان هذا عبدًا مثلك فلم يمنعه ذلك أن عبدني فيؤمر به إلى النار ثم يدعو المبتلى، فإذا قال: شغلتني بالبلاء دعا أيوب فيقول: قد ابتليت هذا بأشد من بلائك فلم يمنعه ذلك من عبادتي، ثم يؤتى بالملك في الدينا مع ما آتاه اللّه تعالى من الغنى والسعة فيقول: ما عملت فيما آتيتك؟ فيقول: شغلني الملك عن ذلك فيدعي سليمان فيقول: هذا عبدي آتيته أكثر مما آتيتك فلم يشلغه ذلك عن عبادتي اذهب فلا عذر لك ويؤمر به إلى النار»، وعن معاذ عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لن يزول قدم العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع؛ عن جسده فيم أبلاه وعن عمره فيم أفناه وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن علمه كيف عمل به». ولما كان المقصود من ذكر الآيات المتقدمة الرد على القوم الذين افتخروا بأموالهم وأعوانهم على فقراء المسلمين وهذه الآية المذكورة في قوله تعالى: {وإذ} أي: واذكر إذ {قلنا للملائكة} الذين هم أطوع شيء لأوامرنا المقصود من ذكرها عين هذا المعنى وذلك لإن إبليس إنما تكبر على آدم لأنه افتخر بأصله ونسبه وقال: خلقتني من نار وخلقته من طين وأنا أشرف منه في الأصل والنسب فكيف أسجد له وكيف أتواضع له، وهؤلاء المشركون عاملوا فقراء المسلمين بمعنى هذه المعاملة فقالوا: كيف نجالس هؤلاء الفقراء مع أنّا أناس من أنساب شريفة وهم من أنساب باذلة ونحن أغنياء وهم فقراء، ذكر اللّه تعالى هذه القصة تنبيهًا على أن هذه الطريقة هي نفسها طريقة إبليس حين أمره اللّه تعالى في جملة الملائكة بقوله تعالى: {اسجدوا لآدم} سجود انحناء بلا وضع جبهة تحية له {فسجدوا إلا إبليس كان من الجن} قيل: هم نوع من الملائكة فالاستثناء متصل، وقيل: هو منقطع وإبليس أبو الجن فله ذرّية ذكرت معه بعد، والملائكة لا ذرّية لهم وكرّرت هذه القصة لهذا المقصود المذكور. قال البيضاوي: وهكذا مذهب كل تكرير في القرآن أي: إنما يكرّر لمناسبة ذلك المحل الذي يذكر فيه {ففسق} أي: خرج بتركه السجود {عن أمر ربه} أي: سيده ومالكه المحسن إليه والفاء للسببية وفيه دليل على أنّ الملك لا يعصي البتة ورنما عصى إبليس لأنه كان خبيثًا في أصله والكلام المستقصى فيه تقدّم في سورة البقرة ثم أنه تعالى حذر عن أتباعه بقوله تعالى: {أفتتخذونه} الخطاب لآدم وذريته والهاء هنا وفيما سيأتي لإبليس والهمزة للإنكار والتعجب أي: يفسق باستحقاركم فنطرده لأجلكم فيكون ذلك سببًا لأن تتخذوه {وذريته} شركاء لي {أولياء} لكم {من دوني} تطيعونهم بدل طاعتي وقوله تعالى: {وهم لكم عدوّ} أي: أعداء حال ولما كان هذا الفعل أجدر شيء بالذم وصل به قوله تعالى: {بئس للظالمين بدلًا} من اللّه إبليس وذريته، وكان الأصل لكم ولكنه أبرز الضمير ليعلق الفعل بالوصف لإفادة التعميم. روى مجاهد عن الشعبي قال: إني لقاعد يومًا إذ أقبل جمال فقال: أخبروني هل لإبليس زوجة قلت: إنّ ذلك لعرس ما شهدته ثم ذكرت قوله تعالى: {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني} فعلمت أن لا تكون ذرّية إلا من زوجة فقلت: نعم وقال قتادة: يتوالدون كما يتوالد بنو آدم، وقيل: إنه يدخل ذنبه في دبره فيبيض البيضة فتنفلق عن جماعة من الشياطين، قال مجاهد من ذرية إبليس لاقيس وولهان وهما صاحبا الطهارة والصلاة والهفاف ومرة وبه يكنى وزلنيور وهو صاحب الأسواق يزين اللغو والأيمان الكاذبة ومدح السلع ونبز وهو صاحب المصائب يزين خمش الوجوه ولطم الخدود وشق الجيوب، والأعور وهو صاحب الزنا ينفخ في إحليل الرجل وعجز المرأة، ومطوس وهو صاحب الأخبار الكاذبة يلقيها في أفواه الناس لا يجدون لها أصلًا، وداسم وهو الذي إذا دخل الرجل بيته ولم يسم اللّه ولم يذكر اللّه دخل معه، وإذا أكل ولم يسم اللّه أكل معه، قال الأعمش: ربما دخلت البيت ولم أذكر اللّه ولم أسلم فرأيت مطهرة فقلت: ارفعوا وخاصمتهم ثم اذكر فأقول داسم داسم.
وعن عثمان بن أبي العاص قال: قلت يا رسول اللّه إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها عليّ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «ذلك شيطان يقال له خترب فإذا أحسسته فتعوّذ باللّه واتفل عن يسارك ثلاثًا قال ففعلت ذلك فأذهبه اللّه عني»، وعن أبيّ بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «للوضوء شيطان يقال له الولهان فاتقوا وساوس الماء»، وعن جابر قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئًا قال: ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته قال: فيدنيه منه ويقول: نعم أنت»، قال الأعمش: أراه قال: فيلتزمه. اهـ.